فصل: فصل في التعريف بالسورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم




.سورة الطلاق:

.فصول مهمة تتعلق بالسورة الكريمة:

.فصل في فضل السورة الكريمة:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
فضل السّورة:
فيه حديث أُبي: «من قرأها مات على سُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم».
وحديث علي: «يا علي منْ قرأها فكأنما ربّى ألْف يتيم، وله بكلّ آية قرأها مثلُ ثواب منْ يلقِّن ألف ميّت». اهـ.

.فصل في مقصود السورة الكريمة:

.قال البقاعي:

سورة الطلاق:
مقصودها تقدير حسن التدبير في المفارقة والمهاجرة بتهذيب الأخلاق، بالتقوى لاسيما في الإنفاق، لاسيما إن كان ذلك عند الشقاق، لاسيما إن كان في أمر النساء لاسيما عند الطلاق، ليكون الفراق على نحو التواصل والتلاق، واسمها الطلاق أجمع ما يكون لذلك، فلذا سميت به وكذا سورة النساء القصرى لأن العدل في الفراق بعض مطلق العدل الذي هو محط مقصود سورة النساء. اهـ.

.قال مجد الدين الفيروزابادي:

.بصيرة في: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء}:

السّورة مدنيّة بالاتِّفاق.
وآياتها خمس عشرة في عدّ البصرة، واثنتا عشرة عند الباقين.
وكلماتها مائتان وأِربعون.
وحروفها ألْف وسِتُّون.
والمختلف فيها ثلاث آيات: مخرجا و{والْيوْمِ الآخِر} {يا أُوْلِي الألْبابِ} فواصل آياتها على الألف.
ولها اسمان: سورة الطّلاق لقوله: {إِذا طلّقْتُمُ النِّساء فطلِّقُوهُنّ} والثّانى سورة النِّساءِ القُصْرى.
قاله عبد الله بن مسعود.

.معظم مقصود السّورة:

بيان طلاق السُنّة، وأحكام العِدّة، والتّوكُّل على الله تعالى في الأُمور، وبيان نفقة النِّساءِ حال الحمل والرّضاع، وبيان عُقُوبة المتعدِّين وعذابِهم، وأنّ التّكليف على قدْر الطاقة، وللصّالحين الثوابُ والكرامة، وبيان إِحاظة العلم، والقُدْرة، في قوله: {لتعْلمُواْ} الآية.
السّورة خالية عن المنسوخ.
وفيها النّاسخ {وأشْهِدُواْ ذوي عدْلٍ مِّنكُمْ}.

.فصل في متشابهات السورة الكريمة:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
ومن المتشابه قوله تعالى: {ومن يتّقِ الله يجْعل لّهُ مخْرجا} أمر بالتّقوى في أحكام الطّلاق ثلاث مرّات، ووعد في كلِّ مرّة بنوع من الجزاءِ، فقال أوّلا: {يجْعل لّهُ مخْرجا}: يُخرجه مما أُدخِل فيه وهو يكرهه، ويُتيح له محبوبه من حيث لا يأمُل.
وقال في الثانى: يسهّل عليه الصّعب من أمره، ويُتيح له خيرا ممن طلّقها.
والثالث وعد عليه أفضل الجزاءِ، وهو ما يكون في الآخرة من النعماءِ.

.فصل في التعريف بالسورة الكريمة:

.قال ابن عاشور:

سورة الطلاق:
سورة {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} [الطلاق: 1] إلخ شاعت تسميتها في المصاحف وفي كتب التفسير وكتب السنة: سورة الطلاق ولم ترد تسميتها بهذا في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم موسوم بالقبول.
وذكر في (الإتقان) أن عبد الله بن مسعود سماها سورة النساء القُصرى أخذا مما أخرجه البخاري وغيره عن مالك بن عامر قال: كنّا عند عبد الله بن مسعود فذُكر عنده أن الحامل المتوفى عنها تعتد أقصى الأجلين (أي أجل وضع الحمل إن كان أكثر من أربعة أشهر وعشرٍ، وأجلل الأربعة الأشهر وعشرٍ) فقال: أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون عليها الرخصة لنزلتْ سورة النساء القُصرى بعد الطُّولى {وأولاتُ الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} (الطلاق: 4). اهـ.
وفي (الإتقان) عن الداودي إنكار أن تُدعى هذه السورة بالقصرى للتنزه عن وصف القرآن بصفة نقص، ورده ابن حجر بأن القِصر أمر نسبي أي ليس مشعرا بنقص على الإطلاق. وابن مسعود وصفها بالقُصرى احترازا عن السورة المشهورة باسم سورة النساء التي هي السورة الرابعة في المصحف التي أولها{يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة}(النساء: 1). وأما قوله الطُولى فهو صفة لموصوف محذوف أي بعد السورة الطولى يعني سورة البقرة لأنها أطول سور القرآن ويتعين أن ذلك مراده لأن سورة البقرة هي التي ذكرت فيها عدة المتوفى عنها. وقد يُتوهم أن سورة البقرة تسمى سورة النساء الطولى من مقابلتها بسورة النساء القصرى في كلام ابن مسعود. وليس كذلك كما تقدم في سورة النساء.
وهي مدنية بالاتفاق.
وعدد آيها اثنتا عشرة آية في عدد الأكثر. وعدها أهل البصرة إحدى عشرة آية.
وهي معدودة السادسة والتسعين في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد نزلت بعد سورة الإِنسان وقبل سورة البينة.
وسبب نزولها ما رواه مسلم عن طريق ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن يسأل ابن عمر كيف ترى في الرجل طلق امرأته حائضا؟ فقال: طلق ابنُ عمر امرأته حائضا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: ليراجعها، فردّها وقال: إذا طهرت فليطلق أو ليُمسك. قال ابن عمر وقرأ النبي: {يأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} (الطلاق: 1).
وظاهر قوله: وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم إلخ. إنها نزلت عليه ساعتئذٍ. ويحتمل أن تكون نزلت قبل هذه الحادثة. وقال الواحدي عن السدي: إنها نزلت في قضية طلاق ابن عمر، وعن قتادة أنها نزلت بسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ولم يصح. وجزم أبو بكر بن العربي بأن شيئا من ذلك لم يصح وأن الأصح أن الآية نزلت بيانا لشرع مبتدإ. اهـ.

.قال سيد قطب:

تقديم لسورة الطلاق:
هذه سورة الطلاق، يبين الله فيها أحكامه، ويفصل فيها الحالات التي لم تفصل في السورة الأخرى (سورة البقرة) التي تضمنت بعض أحكام الطلاق؛ ويقرر فيها أحكام الحالات المتخلفة عن الطلاق من شؤون الأسرة. وقد تضمنت هذه السورة بيان الوقت الذي يمكن أن يقع فيه الطلاق الذي يقبله الله ويجري وفق سنته: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن}.. وحق المطلقة وواجبها في البقاء في بيتها- وهو بيت مطلقها- فترة العدة لا تخرج ولا تخرج إلا أن تأتي بفاحشة مبينة: {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة}..
وحقها بعد انقضاء العدة في الخروج لتفعل بنفسها ما تشاء، ما لم يكن الزوج قد راجعها وأمسكها في فترة العدة، لا ليضارها ويؤذيها بهذا الإمساك ويعطلها عن الزواج، ولكن لتعود الحياة الزوجية بينهما بالمعروف: {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف}.. وهذا مع الإشهاد على الإمساك أو الفراق: {وأشهدوا ذوي عدل منكم}..
وفي سورة البقرة بين مدة العدة للمطلقة ذات الحيض- وهي ثلاثة قروء بمعنى ثلاث حيضات أو ثلاثة أطهار من الحيضات على خلاف فقهي- وهنا بين هذه المدة بالنسبة للآيسة التي انقطع حيضها وللصغيرة التي لم تحض: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن}..
وبين عدة الحامل: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن}..
ثم فصل حكم المسكن الذي تعتد فيه المعتدة ونفقة الحمل حتى تضع: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن}..
ثم حكم الرضاعة لولد المطلقة حين تضعه، وأجر الأم على الرضاعة في حالة الإتفاق بينها وبين أبيه على مصلحة الطفل بينهما، وفي حالة إرضاعه من أخرى: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى}..
ثم زاد حكم النفقة والأجر في جميع الحالات تفصيلا، فجعله تابعا لحالة الزوج وقدرته: {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها}..
وهكذا تتبعت النصوص سائر الحالات، وما يتخلف عنها، بأحكام مفصلة دقيقة، ولم تدع شيئا من أنقاض الأسرة المفككة بالطلاق إلا أراحته في مكانه، وبينت حكمه، في رفق وفي دقة وفي وضوح..
ويقف الإنسان مدهوشا أمام هذه السورة وهي تتناول أحكام هذه الحالة ومتخلفاتها. وهي تحشد للأمر هذه الحشد العجيب من الترغيب والترهيب، والتعقيب على كل حكم، ووصل هذا الأمر بقدر الله في السماوات والأرضين، وسنن الله في هلاك العاتين عن أمره، وفي الفرج والسعة لمن يتقونه. وتكرار الأمر بالمعروف والسماحة والتراضي، وإيثار الجميل. والإطماع في الخير. والتذكير بقدر الله في الخلق وفي الرزق، وفي اليسر والعسر..
يقف الإنسان مدهوشا أمام هذا الحشد من الحقائق الكونية الكبرى في معرض الحديث عن الطلاق أمام هذا الاحتفال والاهتمام- حتى ليوجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشخصه، وهو أمر عام للمؤمنين وحكم عام للمسلمين، زيادة في الاهتمام وإشعارا بخطورة الأمر المتحدث فيه. وأمام هذا التفصيل الدقيق للأحكام حالة حالة، والأمر المشدد في كل حكم بالدقة في مراعاته، وتقوى الله في تنفيذه، ومراقبة الله في تناوله. والإطالة في التعقيب بالترغيب والترهيب، إطالة تشعر القلب كأن هذا الأمر هو الإسلام كله! وهو الدين كله! وهو القضية التي تفصل فيها السماء، وتقف لتراقب تنفيذ الأحكام! وتعد المتقين فيها بأكبر وأسمى ما يتطلع إليه المؤمن؛ وتوعد الملتوين والمتلكئين والمضارين بأعنف وأشد ما يلقاه عاص؛ وتلوح للناس بالرجاء الندي والخير المخبوء وراء أخذ الأمر بالمعروف والسماحة والتجمل والتيسير.
ويقرأ القارئ في هذه السورة.. {واتقوا الله ربكم}.. {وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه}.. {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا}.. {وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله}.. {ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر}.. {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب.. ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا}.. {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا}. {ذلك أمر الله أنزله إليكم} {ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا}.. {سيجعل الله بعد عسر يسرا}..
كما يقرأ ذلك التهديد العنيف الطويل المفصل: {وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا أعد الله لهم عذابا شديدا}..
يعقبه التحذير من مثل هذا المصير، والتذكير بنعمة الله بالرسول وما معه من النور، والتلويح بالأجر الكبير: {فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا}..
ثم يقرأ هذا الإيقاع الهائل الضخم في المجال الكوني الكبير: {الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما}..
يقرأ هذا كله تعقيبا على أحكام الطلاق. ويجد سورة كاملة في القرآن، من هذا الطراز، كلها موقوفةعلى تنظيم هذه الحالة ومتخلفاتها كذلك! وربطها هكذا بأضخم حقائق الإيمان في المجال الكوني والنفسي. وهي حالة تهدم لا حالة بناء، وحالة انتهاء لا حالة إنشاء.. لأسرة.. لا لدولة.. وهي توقع في الحس أنها أضخم من إنشاء دولة!
علام يدل هذا؟
إن له عدة دلالات تجتمع كلها عند سمو هذا الدين وجديته وانبثاقه من نبع غير بشري على وجه التأكيد. حتى لو لم تكن هناك دلالة أخرى سوى دلالة هذه السورة!
إنه يدل ابتداء على خطورة شأن الأسرة في النظام الإسلامي:
فالإسلام نظام أسرة. البيت في اعتباره مثابة وسكن، في ظله تلتقي النفوس على المودة والرحمة والتعاطف والستر والتجمل والحصانة والطهر؛ وفي كنفه تنبت الطفولة، وتدرج الحداثة؛ ومنه تمتد وشائج الرحمة وأواصر التكافل.
ومن ثم يصور العلاقة البيتية تصويرا رفافا شفيفا، يشع منه التعاطف، وترف فيه الظلال، ويشيع فيه الندى، ويفوح منه العبير: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة}.. {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن}.. فهي صلة النفس بالنفس، وهي صلة السكن والقرار، وهي صلة المودة والرحمة، وهي صلة الستر والتجمل. وإن الإنسان ليحس في الألفاظ ذاتها حنوا ورفقا، ويستروح من خلالها نداوة وظلا. وإنها لتعبير كامل عن حقيقة الصلة التي يفترضها الإسلام لذلك الرباط الإنساني الرفيق الوثيق. ذلك في الوقت الذي يلحظ فيه أغراض ذلك الرباط كلها، بما فيها امتداد الحياة بالنسل، فيمنح هذه الأغراض كلها طابع النظافة والبراءة، ويعترف بطهارتها وجديتها، وينسق بين اتجاهاتها ومقتضياتها. ذلك حين يقول: {نساؤكم حرث لكم}. فيلحظ كذلك معنى الإخصاب والإكثار.
ويحيط الإسلام هذه الخلية، أو هذا المحضن، أو هذه المثابة بكل رعايته وبكل ضماناته. وحسب طبيعة الإسلام الكلية، فإنه لا يكتفي بالإشعاعات الروحية، بل يتبعها التنظيمات القانونية والضمانات التشريعية.
والذي ينظر في تشريعات الأسرة في القرآن والسنة في كل وضع من أوضاعها ولكل حالة من حالاتها، وينظر في التوجيهات المصاحبة لهذه التشريعات، وفي الإحتشاد الظاهر حولها بالمؤثرات والمعقبات؛ وفي ربط هذا الشأن بالله مباشرة في كل موضع، كما هو الحال في هذه السورة وفي غيرها.. يدرك إدراكا كاملا ضخامة شأن الأسرة في النظام الإسلامي، وقيمة هذا الأمر عند الله، وهو يجمع بين تقواه- سبحانه- وتقوى الرحم في أول سورة النساء حيث يقول: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا}.. كما يجمع بين عبادة الله والإحسان للوالدين في سورة الإسراء وفي غيرها: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا}.. وبين الشكر لله والشكر للوالدين في سورة لقمان: {أن اشكر لي ولوالديك}..
وإن هذه العناية القصوى بأمر الأسرة لتتناسق مع مجرى القدر الإلهي بإقامة الحياة البشرية ابتداء على أساس الأسرة، حين جرى قدر الله أن تكون أول خلية في الوجود البشري هي أسرة آدم وزوجه، وأن يتكاثر الناس بعد ذلك من هذه الخلية الأولى. وكان الله- سبحانه- قادرا على أن يخلق الملايين من الأفراد الإنسانيين دفعةواحدة. ولكن قدره جرى بهذا لحكمة كامنة في وظيفة الأسرة الضخمة في حياة هذا المخلوق، حيث تلبي حياة الأسرة فطرته واستعداداته، وحيث تنمي شخصيته وفضائله، وحيث يتلقى فيها أعمق المؤثرات في حياته. ثم جرت هذه العناية في النظام الإسلامي- منهج الله الأخير في الأرض- مع القدر الإلهي في خلقة الإنسان ابتداء. كما هو الشأن في تناسق كل ما يصدر عن الله بلا تفاوت ولا اختلاف.
والدلالة الثانية لسياق السورة، وللاحتفال بشأن العلاقات الزوجية والعائلية هذا الاحتفال في القرآن كله، هي اتجاه النظام الإسلامي لرفع هذه العلاقات الإنسانية إلى مستوى القداسة المتصلة بالله؛ واتخاذها وسيلة للتطهر الروحي والنظافة الشعورية- لا كما كان ينظر إليها في العقائد الوثنية، وعند أتباع الديانات المحرفة، البعيدة بهذا التحريف عن فطرة الله التي فطر الناس عليها.
إن الإسلام لا يحارب دوافع الفطرة ولا يستقذرها، إنما ينظمها ويطهرها، ويرفعها عن المستوى الحيواني، ويرقيها حتى تصبح هي المحور الذي يدور عليه الكثير من الآداب النفسية والاجتماعية. ويقيم العلاقات الجنسية على أساس من المشاعر الإنسانية الراقية، التي تجعل من التقاء جسدين، التقاء نفسين وقلبين وروحين. وبتعبير شامل التقاء إنسانين، تربط بينهما حياة مشتركة، وآمال مشتركة، وآلام مشتركة، ومستقبل مشترك، يلتقي في الذرية المرتقبة، ويتقابل في الجيل الجديد، الذي ينشأ في العش المشترك، الذي يقوم عليه الوالدان حارسين لا يفترقان.
ويعد الإسلام الزواج وسيلة للتطهر والارتفاع فيدعو الأمة المسلمة لتزويج رجالها ونسائها إذا قام المال عقبة دون تحقيق هذه الوسيلة الضرورية لتطهير الحياة ورفعها: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فُقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله}.. ويسمي الزواج إحصانا أي وقاية وصيانة. ويستقر في أخلاد المؤمنين أن البقاء بدون إحصان ولو فترة قصيرة لا ينال رضى الله. فيقول الإمام علي- كرم الله وجهه- وقد سارع بالزواج عقب وفاة زوجه فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم: «لقد خشيت أن ألقى الله وأنا عزب».. فيدخل الزواج في عرف المؤمن في الطاعات التي يتقرب بها إلى ربه. وترتفع هذه الصلة إلى مكان القداسة في ضميره بما أنها إحدى الطاعات لربه.
والدلالة الثالثة لسياق سورة الطلاق ونظائرها هي واقعية هذا النظام الإسلامي ومعاملته للحياة وللنفس البشرية كما هي في فطرتها، مع محاولة رفعها إلى ذلك المستوى الكريم، عن طريق استعداداتها وملابسات حياتها. ومن ثم لا يكتفي بالتشريع الدقيق في هذا الأمر الموكول إلى الضمير. ولا يكتفي بالتوجيه. ويستخدم هذا وذاك في مواجهة واقع النفس وواقع الحياة.
إن الأصل في الرابطة الزوجية هو الاستقرار والاستمرار. والإسلام يحيط هذه الرابطة بكل الضمانات التي تكفل استقرارها واستمرارها. وفي سبيل هذه الغاية يرفعها إلى مرتبة الطاعات، ويعين على قيامها بمال الدولة للفُقراء والفقيرات، ويفرض الآداب التي تمنع التبرج والفتنة كي تستقر العواطف ولا تتلفت القلوب على هتاف الفتنة المتبرجة في الأسواق! ويفرض حد الزنا وحد القذف؛ ويجعل للبيوت حرمتها بالاستئذان عليهاوالاستئذان بين أهلها في داخلها.
وينظم الارتباطات الزوجية بشريعة محددة، ويقيم نظام البيت على أساس قوامة أحد الشريكين وهو الأقدر على القوامة، منعا للفوضى والاضطراب والنزاع.. إلى آخر الضمانات والتنظيمات الواقية من كل اهتزاز. فوق التوجيهات العاطفية. وفوق ربط هذه العلاقة كلها بتقوى الله ورقابته.
ولكن الحياة الواقعية للبشر تثبت أن هناك حالات تتهدم وتتحطم على الرغم من جميع الضمانات والتوجيهات. وهي حالات لابد أن تواجه مواجهة عملية، اعترافا بمنطق الواقع الذي لا يجدي إنكاره حين تتعذر الحياة الزوجية، ويصبح الإمساك بالزوجية عبثا لا يقوم على أساس!
والإسلام لا يسرع إلى رباط الزوجية المقدسة فيفصمه لأول وهلة، ولأول بادرة من خلاف. إنه يشد على هذا الرباط بقوة، فلا يدعه يفلت إلا بعد المحاولة واليأس.
إنه يهتف بالرجال: {وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا}.. فيميل بهم إلى التريث والمصابرة حتى في حالة الكراهية، ويفتح لهم تلك النافذة المجهولة: {فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا} فما يدريهم أن في هؤلاء النسوة المكروهات خيرا، وأن الله يدخر لهم هذا الخير. فلا يجوز أن يفلتوه. إن لم يكن ينبغي لهم أن يستمسكوا به ويعزوه! وليس أبلغ من هذا في استحياء الإنعطاف الوجداني واستثارته، وترويض الكره وإطفاء شرته.
فإذا تجاوز الأمر مسألة الحب والكره إلى النشوز والنفور، فليس الطلاق أول خاطر يهدي إليه الإسلام. بل لابد من محاولة يقوم بها الآخرون، وتوفيق يحاوله الخيرون: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا}.. {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير}..
فإذا لم تجد هذه الوساطة، فالأمر إذن جد، وهناك ما لا تستقيم معه هذه الحياة، ولا يستقر لها قرار. وإمساك الزوجية على هذا الوضع إنما هو محاولة فاشلة، يزيدها الضغط فشلا، ومن الحكمة التسليم بالواقع، وإنهاء هذه الحياة على كره من الإسلام، فإن أبغض الحلال إلى الله الطلاق.
فإذا أراد أن يطلق فليس في كل لحظة يجوز الطلاق. إنما السنة أن يكون في طهر لم يقع فيه وطء.. وفي هذا ما يؤجل فصم العقدة فترة بعد موقف الغضب والانفعال. وفي خلال هذه الفترة قد تتغير النفوس، وتقر القلوب، ويصلح الله بين المتخاصمين فلا يقع الطلاق!
ثم بعد ذلك فترة العدة. ثلاثة قروء للتي تحيض وتلد. وثلاثة أشهر للآيسة والصغيرة. وفترة الحمل للحوامل. وفي خلالها مجال للمعاودة إن نبضت في القلوب نابضة من مودة، ومن رغبة في استئناف ما انقطع من حبل الزوجية.
ولكن هذه المحاولات كلها لا تنفي أن هناك انفصالا يقع، وحالات لابد أن تواجهها الشريعة مواجهة عملية واقعية، فتشرع لها، وتنظم أوضاعها، وتعالج آثارها. وفي هذا كانت تلك الأحكام الدقيقة المفصلة، التي تدل على واقعية هذا الدين في علاجه للحياة، مع دفعها دائما إلى الأمام. ورفعها دائما إلى السماء.
والدلالة الرابعة للسورة وما فيها من الترغيب والترهيب والتعقيب والتفصيل الشديد والتوكيد، هو أنهاكانت تواجه حالات واقعة في الجماعة المسلمة متخلفة من رواسب الجاهلية، وما كانت تلاقيه المرأة من العنت والخسف، مما اقتضى هذا التشديد، وهذا الحشد من المؤثرات النفسية، ومن التفصيلات الدقيقة، التي لا تدع مجالا للتلاعب والالتواء مع ما كان مستقرأ في النفوس من تصورات متخلفة عن علاقات الجنسين، ومن تفكك وفوضى في الحياة العائلية.
ولم يكن الحال هكذا في شبه الجزيرة وحدها، إنما كان شائعا في العالم كله يومذاك. فكان وضع المرأة هو وضع الرقيق أو ما هو أسوأ من الرقيق في جنبات الأرض جميعا. فوق ما كان ينظر إلى العلاقات الجنسية نظرة استقذار، وإلى المرأة كأنها شيطان يغري بهذه القذارة.
ومن هذه الوهدة العالمية ارتفع الإسلام بالمرأة وبالعلاقات الزوجية إلى ذلك المستوى الرفيع الطاهر الكريم الذي سبقت الإشارة إليه. وأنشأ للمرأة ما أنشأ من القيمة والاعتبار والحقوق والضمانات.. وليدة لا توأد ولا تهان. ومخطوبة لا تنكح إلا بإذنها ثيبا أو بكرا. وزوجة لها حقوق الرعاية فوق ضمانات الشريعة. ومطلقة لها هذه الحقوق المفصلة في هذه السورة وفي سورة البقرة وغيرها.. شرع الإسلام هذا كله. لا لأن النساء في شبه الجزيرة أو في أي مكان في العالم حينذاك شعرن بأن مكانهن غير مرض! ولا لأن شعور الرجال كذلك قد تأذى بوضع النساء. ولا لأنه كان هناك اتحاد نسائي عربي أو عالمي! ولا لأن المرأة دخلت دار الندوة أو مجلس الشورى! ولا لأن هاتفا واحدا في الأرض هتف بتغيير الأحوال.. إنما كانت هي شريعة السماء للأرض. وعدالة السماء للأرض. وإرادة السماء بالأرض.. أن ترتفع الحياة البشرية من تلك الوهدة، وأن تتطهر العلاقات الزوجية من تلك الوصمة، وأن يكون للزوجين من نفس واحدة حقوق الإنسان وكرامة الإنسان... هذا دين رفيع.. لا يعرض عنه إلا مطموس. ولا يعيبه إلا منكوس، ولا يحاربه إلا موكوس. فإنه لا يدع شريعة الله إلى شريعة الناس إلا من أخلد إلى الأرض واتبع هواه.
والآن نستعرض الأحكام في سياق السورة- بعد هذا الاستطراد الذي لا يبعد كثيرا عن جو هذا الجزء وما فيه من تنظيم وبناء للجماعة المسلمة- والأحكام في سياق السورة شيء آخر غير ذلك التلخيص. شيء حي. فيه روح. وفيه حركة. وفيه حياة. وفيه إيحاء.. وله إيقاع. وهذا هو الفارق الأصيل بين مدارسة الأحكام في القرآن ومدارستها في كتب الفقه والأصول. اهـ.